نبدأ بالموقف:
قابلت الطالبتان عالية وراندة الطالبة المستجدة سلمى وأصبحت تحت اختبار الصداقة. وفي أول الامتحانات الشهرية نجحت سلمى بتفوق في امتحان المقرر ورسبت في امتحان صداقتهما لأنها خانت العيش والملح وخانت العشرة ورفضت أن تجلس أمامهما في الامتحان وتسرب لهما بعضا من إجاباتها. كان عليها أن تقف معهما أن تكون جدعة وأن تساعد صديقاتها.
* * *
منذ أن نلتحق بالمدرسة وبعدها الجامعة، نبدأ في تشرب الثقافات المحيطة ونصبح تحت وطأة عدة اختبارات، بعضها صريح وبعضها ضمني. والكثير من هذه المحكات يصبح جزءا لا يتجزأ من الشخصية الفردية لكل منا، ثم جزءا من الهوية الجمعية لمجتمعاتنا التي نعيش بها.
من منا لم يمر بمثل ذلك الموقف أثناء سنوات تعليمه، والذي قد يبدو معتادا للبعض وعاديا لدرجة أنه يمر علينا مرور الكرام. ولكن لابد من وقفة مع ذلك الموقف. إن مثل ذلك الموقف الذي يبدو في ظاهره بسيطا ومتكررا لهو مثال للعديد من الممارسات التي تبتعد عن الأخلاق الحميدة والتي تسربت إلى ثقافاتنا جيلا بعد جيل حتى أصبحت واقعا معاشا يلام من يحيد عنه.
في الموقف السابق، اعتبرت الطالبتان أن ثقافة التغشيش أمرًا مفروغا منه وأنه حق الصديق على صديقه، وهنا التبست عليهما عدة مفاهيم ومنها مفهوم الصداقة، والذي ينطوى على محبة غيرية تجاه الصديق تهدف إلى رؤيته في أفضل حال. فكيف تصبح كلمة الصداقة وسيلة للإبتزاز العاطفى للآخر ودفعه لعمل ما لا يرتضيه ضميره ومحاسن الأخلاق التي تتسم بوضوح لا يخطئه إلا من غيمت بصيرته.
ومما سبق يتضح أيضا التباس مفاهيم أخلاقية ودينية تتعلق بمفهوم الغش. كيف يصبح الغش في الامتحان هو المعتاد والمندوب ويصبح الالتزام الأخلاقي ومن يتبعه في موضع اللوم والعتاب؟ كيف تنقلب ببساطة مفاهيم الصح والخطأ؟
والموقف البسيط بين الطالبات ينطوى أيضا على بعض من ثقافة التنمر ومحاولة إجبار الآخر على تحقيق رغباتنا. موقف بسيط بين فتيات صغيرات لا يتوقع أحد أنه ضمنيا به ممارسة للسطوة والعنف النفسي وبالذات ومع حداثة العمر يرغب الكثير في الشعور بالانتماء إلى مجموعة صغيرة داعمة ومحبة، ولا يملك الشجاعة والقوة النفسية للرفض والمقاومة فينساق للموافقة تحت ضغط الأقران.
ويمر الكثير منا في حياته المهنية فيما بعد وبالأخص من يعملون منا في مجال التعليم سواء الجامعي أو الأساسي بمواقف كثيرة متشابهة. وبالأخص أثناء المرور على لجان الإمتحانات ومتابعتها. فنرى هناك من يحاول أن يلتفت إلى ورقة إجابة غيره وهناك من تأخذه الشهامة ليحاول تسريب إجاباته إلى زملائه، وهناك المراقب الذي لا يهتم بما يحدث في لجان الإمتحان تساهلا أو إهمالا، وهناك ومن يردد "خليهم ينجحوا"، وهناك المراقبة التي تقول "حرام، نسيبهم ليسقطوا"، وكل ذلك مقبول لدينا ونعتب على من يصحح ونتهمه بالتشدد وتوقيف المراكب السائرة وممكن ندعو عليه كمان ربنا يخرب بيته.
إن الالتفات إلى تلك المواقف الحياتية البسيطة هو بمثابة وقفة مع النفس. فالمجتمعات لا تتقدم إلا بالعمل والوعي وبمراجعة الذات. ثم يأتي التصحيح والذي لا يكون سهلا في حالة أن التغيير يتم على ثقافات عايشتها وتشربتها أجيال وأصبحت جزءا من ممارساتها. ولكن المستحيل غير موجود مع الإرادة وعزيمة التغيير؛ وعلينا ألا نستهين بموقف فردي بسيط رافض ومصحح لمثل تلك الممارسات، لعل دائرة التحسين تتسع ويتعدل المسار في بعض تلك الممارسات فتصبح جزءا من ثقافتنا الجديدة.
---------------------------
بقلم: د. أريج ابراهيم